فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال الفخر:
إنه تعالى لما ذكر أنصباء الأولاد والوالدين، قال: {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} أي هذه الأنصباء إنما تدفع إلى هؤلاء إذا فضل عن الوصية والدين، وذلك لأن أول ما يخرج من التركة الدين، حتى لو استغرق الدين كل مال الميت لم يكن للورثة فيه حق، فأما إذا لم يكن دين، أو كان إلا أنه قضى وفضل بعده شيء، فإن أوصى الميت بوصية أخرجت الوصية من ثلث ما فضل، ثم قسم الباقي ميراثًا على فرائض الله. اهـ.
قال الفخر:
روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: إنكم لتقرؤن الوصية قبل الدين، وإن الرسول صلى الله عليه وسلم قضى بالدين قبل الوصية.
واعلم أن مراده رضي الله تعالى عنه التقديم في الذكر واللفظ، وليس مراده أن الآية تقتضي تقديم الوصية على الدين في الحكم لأن كلمة أو لا تفيد الترتيب ألبتة.
واعلم أن الحكمة في تقديم الوصية على الدين في اللفظ من وجهين: الأول: أن الوصية مال يؤخذ بغير عوض فكان إخراجها شاقا على الورثة، فكان أداؤها مظنة للتفريط بخلاف الدين، فإن نفوس الورثة مطمئنة إلى أدائه، فلهذا السبب قدم الله ذكر الوصية على ذكر الدين في اللفظ بعثا على أدائها وترغيبا في اخراجها، ثم أكد في ذلك الترغيب بادخال كلمة أو على الوصية والدين، تنبيها على أنهما في وجوب الإخراج على السوية.
الثاني: أن سهام المواريث كما أنها تؤخر عن الدين فكذا تؤخر عن الوصية، ألا ترى أنه إذا أوصى بثلث ماله كان سهام الورثة معتبرة بعد تسليم الثلث إلى الموصى له، فجمع الله بين ذكر الدين وذكر الوصية، ليعلمنا أن سهام الميراث معتبرة بعد الوصية كما هي معتبرة بعد الدين، بل فرق بين الدين وبين الوصية من جهة أخرى، وهي أنه لو هلك من المال شيء دخل النقصان في أنصباء أصحاب الوصايا وفي أنصباء أصحاب الارث، وليس كذلك الدين، فإنه لو هلك من المال شيء استوفى الدين كله من الباقي، وإن استغرقه بطل حق الموصى له وحق الورثة جميعا، فالوصية تشبه الإرث من وجه، والدين من وجه آخر، أما مشابهتها بالارث فما ذكرنا أنه متى هلك من المال شيء دخل النقصان في أنصباء أصحاب الوصية والارث، وأما مشابهتها بالدين فلأن سهام أهل المواريث معتبرة بعد الوصية كما أنها معتبرة بعد الدين والله أعلم. اهـ.

.قال القرطبي:

إن قيل: ما الحكمة في تقديم ذكر الوصيّة على ذكر الدَّين، والدَّين مُقدَّم عليها بإجماع.
وقد روى الترمذيّ عن الحارث عن عليّ: أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالدَّين قبل الوصية، وأنتم تقرُّون الوصيّة قبل الدّين.
قال: والعمل على هذا عند عامة أهل العلم أنه يُبدأ بالدّين قبل الوصية.
وروى الدّارَقُطْنِيّ من حديث عاصم بن ضمرة عن عليّ قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الدَّين قبل الوصيّة وليس لوارث وصيّة» رواه عنهما أبو إسحاق الهَمْدانيّ.
فالجواب من أوجهٍ خمسة: الأوّل إنما قصد تقديم هذين الفصلين على الميراث ولم يقصد ترتيبهما في أنفسهما؛ فلذلك تقدّمت الوصية في اللفظ.
جواب ثان لما كانت الوصية أقلَّ لزومًا من الدَّين قدّمها اهتمامًا بها؛ كما قال تعالى: {لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً} [الكهف: 49].
جواب ثالث قدّمها لكثرة وجودها ووقوعها؛ فصارت كاللازم لكل ميّت مع نصّ الشرع عليها، وأخّر الدّين لشذوذه، فإنه قد يكون وقد لا يكون.
فبدأ بذكر الذي لابد منه، وعطف بالذي قد يقع أحيانًا.
ويقوِّي هذا: العطف بأو، ولو كان الدَّين راتبًا لكان العطف بالواو.
جواب رابع إنما قدّمت الوصية إذْ هي حظّ مساكين وضعفاء، وأُخّر الدَّين إذ هو حظُّ غريم يطلبه بقوّةٍ وسلطان وله فيه مقال.
جواب خامس لما كانت الوصية ينشئها مِن قِبَل نفسه قدّمها، والدَّين ثابت مؤدًّى ذكره أو لم يذكره.
ولمّا ثبت هذا تعلّق الشافعيّ بذلك في تقديم دَيْن الزكاة والحج على الميراث فقال: إن الرجل إذا فرّط في زكاته وجب أخذُ ذلك من رأس ماله.
وهذا ظاهر ببادئ الرأي؛ لأنه حقٌّ من الحقوق فيلزم أداؤه عنه بعد الموت كحقوق الآدميين لاسيما والزكاة مصرفها إلى الآدميّ.
وقال أبو حنيفة ومالك: إن أوصى بها أدّيت من ثلثه، وإن سكت عنها لم يُخرَج عنه شيء.
قالوا: لأن ذلك موجِب لترك الورثة فقراء؛ إلا أنه قد يتعمد ترك الكل حتى إذا مات استغرق ذلك جميعَ ماله فلا يبقى للورثة حق. اهـ. بتصرف يسير.
سؤال: لقائل أن يقول: ما معنى أو هاهنا وهلا قيل: من بعد وصية يوصى بها ودين؟
والجواب من وجهين:
الأول: أن أو معناها الاباحة كما لو قال قائل: جالس الحسن أو ابن سيرين والمعنى أن كل واحد منهما أهل أن يجالس، فإن جالست الحسن فأنت مصيب، أو ابن سيرين فأنت مصيب، وإن جمعتهما فأنت مصيب، أما لو قال: جالس الرجلين فجالست واحدا منهما وتركت الآخر كنت غير موافق للأمر، فكذا هاهنا لو قال: من بعد وصية ودين وجب في كل مال أن يحصل فيه الأمران، ومعلوم أنه ليس كذلك، أما إذا ذكره بلفظ أو كان المعنى أن أحدهما إن كان فالميراث بعده، وكذلك إن كان كلاهما.
الثاني: أن كلمة أو إذا دخلت على النفي صارت في معنى الواو كقوله: {وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ ءاثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الإنسان: 24] وقوله: {حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الحوايا أَوْ مَا اختلط بِعَظْمٍ} [الأنعام: 146] فكانت أو هاهنا بمعنى الواو، فكذا قوله تعالى: {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} لما كان في معنى الاستثناء صار كأنه قال إلا أن يكون هناك وصية أو دين فيكون المراد بعدهما جميعا. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وجيء بقوله: {من بعد وصية يوصي بها أو دين} بعد ذكر صنفين من الفرائض: فرائض الأبناء، وفرائض الأبوين، لأنّ هذين الصنفين كصنف واحد إذ كان سببهما عمود النسب المباشر.
والمقصد هنا التنبيه على أهمّية الوصيَّة وتقدّمها.
وإنَّما ذكر الدين بعدها تتميمًا لما يتعيّن تقديمه على الميراث مع علم السامعين أنّ الدين يتقدّم على الوصيّة أيضًا لأنّه حقّ سابق في مال الميّت، لأنّ المدين لا يملك من ماله إلاّ ما هو فاضل عن دين دائنه.
فموقع عطف {أو دين} موقع الاحتراس، ولأجل هذا الاهتمام كرّر الله هذا القيد أربع مرات في هذه الآيات.
ووصف الوصية بجملة {يوصي بها} لئلا يُتوهّم أنّ المراد الوصيّة التي كانت مفروضة قبل شرع الفرائض، وهي التي في قوله: {كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين} [البقرة: 180]. اهـ.

.قال أبو السعود:

وإيثارُ {أَوْ} المفيدةِ للإباحة على الواو للدِلالة على تساويهما في الوجوب وتقدُّمِهما على القِسْمة مجموعَيْن أو منفردَيْن، وتقديمُ الوصيةِ على الديْن ذكرًا مع تأخّرها عنه حُكمًا لإظهار كمالِ العنايةِ بتنفيذها لكونها مظِنةً للتفريط في أدائها ولاطّرادها بخلاف الدَّين. اهـ.

.قال الفخر:

اعلم أن هذا كلام معترض بين ذكر الوارثين وأنصبائهم وبين قوله: {فَرِيضَةً مّنَ الله} ومن حق الاعتراض أن يكون ما اعترض مؤكدا ما اعترض بينه ومناسبه، فنقول: إنه تعالى لما ذكر أنصباء الأولاد وأنصباء الأبوين، وكانت تلك الأنصباء مختلفة والعقول لا تهتدي إلى كمية تلك التقديرات، والإنسان ربما خطر بباله أن القسمة لو وقعت على غير هذا الوجه كانت أنفع له وأصلح، لاسيما وقد كانت قسمة العرب للمواريث على هذا الوجه، وانهم كانوا يورثون الرجال الأقوياء، وما كانوا يورثون الصبيان والنسوان والضعفاء، فالله تعالى أزال هذه الشبهة بأن قال: إنكم تعلمون أن عقولكم لا تحيط بمصالحكم، فربما اعتقدتم في شيء أنه صالح لكم وهو عين المضرة وربما اعتقدتم فيه أنه عين المضرة ويكون عين المصلحة، وأما الاله الحكيم الرحيم فهو العالم بمغيبات الأمور وعواقبها، فكأنه قيل: أيها الناس اتركوا تقدير المواريث بالمقادير التي تستحسنها عقولكم، وكونوا مطيعين لأمر الله في هذه التقديرات التي قدرها لكم، فقوله: {وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا} إشارة إلى ترك ما يميل إليه الطبع من قسمة المواريث على الورثة، وقوله: {فَرِيضَةً مّنَ الله} إشارة إلى وجوب الانقياد لهذه القسمة التي قدرها الشرع وقضى بها، وذكروا في المراد من قوله: {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا} وجوها: الأول: المراد أقرب لكم نفعا في الآخرة، قال ابن عباس: إن الله ليشفع بعضهم في بعض، فأطوعكم لله عز وجل من الأبناء والآباء أرفعكم درجة في الجنة، وإن كان الوالد أرفع درجة في الجنة من ولده رفع الله إليه ولده بمسألته ليقر بذلك عينه، وإن كان الولد أرفع درجة من والديه رفع الله إليه والديه، فقال: {لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا} لأن أحدهما لا يعرف أن انتفاعه في الجنة بهذا أكثر أم بذلك.
الثاني: المراد كيفية انتفاع بعضهم ببعض في الدنيا من جهة ما أوجب من الإنفاق عليه والتربية له والذب عنه والثالث: المراد جواز أن يموت هذا قبل ذلك فيرثه وبالضد.
قوله تعالى: {فَرِيضَةً مّنَ الله} هو منصوب نصب المصدر المؤكد أي فرض ذلك فرضا إن الله كان عليما حكيما، والمعنى أن قسمة الله لهذه المواريث أولى من القسمة التي تميل إليها طباعكم، لأنه تعالى عالم بجميع المعلومات، فيكون عالما بما في قسمة المواريث من المصالح والمفاسد، وأنه حكيم لا يأمر إلا بما هو الأصلح الأحسن، ومتى كان الأمر كذلك كانت قسمته لهذه المواريث أولى من القسمة التي تريدونها، وهذا نظير قوله للملائكة: {إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30]. اهـ.

.قال الخازن:

قوله تعالى: {آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعًا} قيل هذا كلام معترض بين ذكر الوارثين وأنصبائهم وبين قوله فريضة من الله ولا تعلق لمعناه بمعنى الآية ومعنى هذا الكلام في قول ابن عباس: إن الله عز وجل يشفع المؤمنين بعضهم في بعض فأطوعكم لله من الآباء والأبناء أرفعكم درجة، فإن كان الوالد أرفع درجة من ولده رفع الله درجة ولده إليه وإن كان الولد أرفع درجة من والديه رفع الله إليه لتقر بذلك أعينهم فقال تعالى: {لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعًا} لأن أحدهما لا يعرف منفعة صاحبه له في الجنة وسبقه إلى منزلة عالية تكون سببًا لرفعته إليها، وقيل إن هذا الكلام ليس معترضًا بينهما ومعناه متعلق بمعنى الآية يقول آباؤكم وأبناؤكم يعني الذين يرثونكم أيهم أقرب لكم نفعًا أي لا تعلمون أيهم أنفع لكم في الدين والدنيا.
فمنكم من يظن أن الأب أنفع له فيكون الابن أنفع له ومنكم من يظن أن الابن أنفع له فيكون الأب أنفع له ولكن الله هو الذي دبر أمركم على ما فيه المصلحة لكم فاتبعوه ولو وكل ذلك إليكم لم تعلموا أيهم أنفع لكم فتعطون من لا يستحق ما لا يستحق من الميراث وتمنعون منم يستحق الميراث. اهـ.

.قال ابن عاشور:

ختم هذه الفرائض المتعلّقة بالأولاد والوالدين، وهي أصول الفرائض بقوله: {آباؤكم وأبناؤكم} الآية، فهما إمّا مسند إليهما قُدّما للاهتمام، وليتمكّن الخبر في ذهن السامع إذ يُلقي سمعه عند ذكر المسند إليهما بشراشره، وإمّا أن تجعلهما خبرين عن مبتدأ محذوف هو المسند إليه، على طريقة الحذف المعبّر عنه عند علماء المعاني بمتابعة الاستعمال، وذلك عندما يتقدّم حديث عن شيء ثم يراد جمع الخبر عنه كقول الشاعر:
فتى غير محجوب الغنى عن صديقه ** ولا مظهر الشكوى إذا النعل وزلّت

بعد قوله:
سأشكر عمرا إن تدانت منيّتي ** أيادي لم تُمنن وإن هي جلَّت

أي: المذكورون آباؤكم وأبناؤكم لا شكّ في ذلكّ.
ثم قال: {لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعًا} فهو إما مبتدأ وإما حال، بمعنى أنهم غير مستوين في نفعكم متفاوتون تفاوتًا يتبع تفاوت الشفقة الجبلية في الناس ويتبع البرور ومقدار تفاوت الحاجات.
فربّ رجل لم تعرض له حاجة إلى أن ينفعه أبواه وأبناؤه، وربما عرضت حاجات كثيرة في الحالين، وربما لم تعرض فهم متفاوتون من هذا الأعتبار الذي كان يعتمده أهل الجاهلية في قسمة أموالهم، فاعتمدوا أحوالًا غير منضبطه ولا موثوقًا بها، ولذلك قال تعالى: {لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعًا} فشرع الإسلام ناط الفرائض بما لا يقبل التفاوت وهي الأبوة والبنوة، ففرض الفريضة لهم نظرًا لصلتهم الموجبة كونهم أحقّ بمال الأبناء أو الآباء. اهـ.